Volunteer in Jerusalem

قررت لهذا الصيف ألا أكون في معدل  الإحصاءات, ألا أكرر نفسي, أن أكسر الروتين. من الممكن ألا أكون قضيت في حياتي عطلة بلا معنى على شاطئ البحر ولكن هذه المرة حتى رحلة أنظمها وحدي تبدو لي شيئا تافها. أريد القيام بشيء مختلف مهما كلف الأمر من تعب وتحت خطر مواجهة أشياء جديدة ليست بالضرورة ممتعة ولكن بهدف الالتقاء بواقع قد يقدم لي شيئا لم أعرفه بعد ولن أعرفه إذا واصلت القيام بما فعلته حتى اليوم.

أنا مستعد أن "أضحي" بالعطلة حسب رأي أغلب الناس لكي أكون ناشطا. في صميم قلبي أنا متأكد من أن الوقت سوف أضحّي به لو فعلت شيئا سخيفا.أنا مقتنع بأن أستثمر وقتي وطاقتي في سبيل شيء سينفعني لتحويل نفسي إلى شخص متكامل ولا أبقى الموظف الذي يتجه إلى مكتبه ثم إلى البيت ثم إلى المصيف.وانتبهت إلى فكرة تقديم شغلي كمتطوع جنبا لجنب مع العرب لكي أطبق المعرفة التي حصلت عليها في السنوات الأخيرة. لا أستطيع متابعة دورة تكوين أخرى كما لو كنت طالبا خالدا. أود أن أشمّر عن ساعة الجد وأشتغل.قالت لي صديقة في أول السنة قولا قد جعلني أفكر جيدا. والدها اللبناني نصحها بأن تلتزم في النشاط الاجتماعي لحزب الله ففكرت أنني قد أبحث على منظمة أوافق مع أهدافها وأضع نفسي تحت تصرفها لمدة شهر. هكذا بدأت القصة...

 3 آب

 أسافر إلى بودبست. في محطة القطار ازدحام شديد ورغم ذلك أستطيع تجنب الصف وأنا أطلب من شاب أمامي أن يشتري تذكرة لشخصين.في الطائرة أتعرف على شاب إيطالي يعمل في صناعة النبيذ. هو ذاهب إلى بلغاريا لقضاء إجازته الهوجاء. يبدو لي أنه يمثل الجيل الجديد من الشباب الذين يركضون وراء التسلية المبالغ فيها وبدون حدود يطعمه استهلاك المخدرات كي يصمدوا أمام الإيقاع الليلي المجنون. مع ذلك إنه شاب ظريف ومحب لشغله الذي يتكلم عنه بحماس وجدارة. نقرر تحدي الطقس المهدد والمظلم لبودبست لقتل وقت الانتظار طوله 8 ساعات حتى الرحلة القادمة. المدينة ضخمة وعابسة إنما معالمها لا تأثر علي. أشعر بالبرودة وأتصور الأيام الشتوية التي تعيشها كل سنة مع الرياح البرية النازلة بلا رحمة طول نهر دانوب. نتناول قهوة ثم نأكل وجبة "الغولش" التقليدية قبيل بدء عاصفة عنيفة التي نرى برقها المتكرر المخوف وتساقط المياه الغزيرة ونحن راكبون الباص للرجوع إلى المطار. على الأقل لا نتبلل.الطائرة تغادر ساعة بعد موعدها. 

4 آب

 بعد رحلة مضطربة لحد ما أصل في وقت يسبق الفجر بكثير إنما لا أخرج من المطار إلا بعد شروق الشمس. ها هو السبب. عند مراقبة جوازات السفر توقفني الشرطة كما كنت أتوقع بسبب تأشيرات الدخول إلى سوريا وامتداد الإقامة البينة على جواز سفري. يطلبون مني الوقوف جنبا وتبدأ محاكمة جديرة باسم محاكمة التفتيش القرنوسطية. أتعرض لاستجواب أولي يتلوه انتظار طويل بدون أي شرح. ثم مرة تلو الأخرى يخرج رجل أمن من المكتب لطرح سؤال علي. بين كل سلسلة أسئلة والتالية يطول الانتظار وأحاول قتل الملل بقراءة "تاجر البندقية" الذي اشتريته مؤخرا لأفحص الطريقة التي يعالج فيها شيكسبير شخصية اليهودي شايلوك. اليهود المكروه والمظلوم أم اليهود الذي يجعل الناس يكرهونه؟ اليهود الضحية أم اليهود الذي يتصنع الضحية؟ بعد ساعتين أنجح في العبور وأتمنى أن احتراسي لأسباب إقامتي بإسرائيل (كنت أعتقد أن أسهل المرور!!) لا يتبين من تفتيش الأمتعة... ولكن الأمتعة تمر فقط في جهاز ضخم يشغلونه من أجلي أنا. قد يكون جهازا يكتشف التلويث السوري...أصل إلى القدس وأجد الراهبات اللواتي لم يكن معي حتى العنوان الكامل ولكن أحِل المشكلة وأنا أتصل هاتفيا وأطلب إرشادات دقيقة. أكتشف أنني لست المتطوع الوحيد وأسر بذلك. يوجد بنتان أخريان: دوريس من شمال إيطالية ومارياتا من بولندا إضافة إلى دانيال وهو شاب فرنسي من باريس.أستريح نحو ساعتين من الليل بلا نوم ممدودا على السرير ومحيطا بضجيج عمال البلاط الذين يقطعون القطع بمنشار دائري. أعتزم الخروج لأول رحلة استكشافية وأعلم أن الجامعة ستقدم في الساعة الخامسة زيارة مع دليل لطلاب العربية. أنتهز الفرصة التي تسمح لي بأن أجمع معلومات مهمة عن المدينة عبر القرون. عند رجوعي أجد البواب مغلقا ولكن تمر راهبة بسيارتها وتطلب فتح الباب من جوالها لأن مفتاحي لا يشتغل. 

5 آب

 يجب أن أستيقظ في الساعة 6.15 وكذلك كل يوم سأشتغل فيه لأكون جاهزا لحمام المعاقين في الساعة 6.30. الحمام شغل خشن من ناحية ولكن لا أتأثر كثيرا. أفهم كم مهمة النظافة بالنسبة لأشخاص لا يقدرون الاعتناء بأنفسهم. ربما لم يكن الأمر كذلك بالماضي في بعض المؤسسات.المرضى كلهم تقريبا غير بارعين ومعاقون بشكل خطير. يعانون بتأخر عقلي لا يسمح لهم بأن يكونوا مستقلين. يوجد أيضا بضعة المنغوليين أما البعض الآخر فهم مصابون بخلل نفساني. إنهم أسوأ من الأطفال في كثير من الأحيان بفرق ألا يجوز الأمل في أنهم سيكبرون يوما ما.بعد الفطور يجعلونهم يتمشون لمدة ساعة على طول الممر الطويل المقوس الذي يقطع المبنى الضخم الرائع. العمارة عظيمة ومبنية من حجر. إنها جميلة وقوية كأنها قلعة. مشهد المسير يذكرني بمشهد الفيلم "ميدنايت أكسبريس" في سجن إسطمبول النفساني حيث المرضى يمشون حول العامود الوسطي. هذا يعطيني الإحساس بأني أسير لنفس المرض. نحن المتطوعون نتبادل أنظارا جاحدة لما نفعله ويبدو لنا كأنما نفقد العقل. ثم نأخذ المرضى إلى الحديقة العمومية ثم يطلبون منا غسل الألعاب في ماء وصابون.نساعدهم عند الأكل. البعض لا يستطيع حتى القيام بهذه الهمة وحدهم. يخطر على بالي القانون القاسي والمنطقي الذي كان الإغريق القدماء يطبقونه...أستغرب في رؤية الموظفين يحبون هؤلاء المخلوقات المسكينة البائسة. يتعاملون معهم بعطف لا أستطيع التعبير عنه بعد. في الساعة الثالثة أبدأ استكشافا جديدا يأخذني إلى كنيسة القيامة وعن علم الاتجاهات التي أخذها أصل شيئا فشيئا إلى حائط المبكى.أتحدث مع بائع كباب أمام باب العامود.عند الرجوع أجد الباب مغفلا مرة ثانية لكن ملكي الحارس يمر بالسيارة من جديد ويفتحه لي. إنه يصعب علي أن أحدد موضعي في ممرات العمارة الضخمة!! 

6 آب

 اليوم يتكون دوامي مقسما لفترتي عمل من الساعة6.30 إلى الساعة8.00 صباحا ومن الساعة2.30 إلى الساعة6.00 مساء. اضطررت أن أكون نشيطا في الحمام اليوم لأن جاكلين لن تكون موجودة من الآن فصاعدا بعد أن عرضت لنا العمل أمس. نحن ثلاث اليوم لأن بينو معنا وهو كاهن إيطالي يخدم هنا مرتين في الأسبوع. لم أشغل نفسي بأحوال مؤسفة.بعد فطور المرضى فطرت أنا مع دوريس وفي العاشرة خرجنا مع مارياتا لزيارة برج داود ومتحف القدس. كلنا نشكى من الناموس الفاجع المزعج طول الليل. نأكل سوية وبعد الظهر نبدأ الشغل. نأخذ المعاقين إلى البستان ثم حوالي الساعة 4 يشربون الشاي وبعد ذلك يجري المسير الملعون لمدة ثلاث أرباع ساعة في الممر الأمر الذي يجنننا نحن أيضا.دوريس تبدو كأنها وصلت إلى نهاية قدرة تحملها ويخيل إلي ألا أبقى إلى أخر الشهر بيد أنه ليس ألا اليوم الثاني!ثم يجيء العشاء فننوّم هؤلاء المساكين. عندي الانطباع بأني انتهيت في قفص المجانين مع بؤساء لا يعرفون عن وجودهم في الدنيا.بطرس وعملاته في الحقيبة ونظاراته الشمسية وساعته التي يخلعها ويضعها في جيبه قبل أن يشرع في عمل أي شيء. يدمدم باستمرار أشياء غير مفهومة. آخرون يتدللون في الإغماء تحت تأثير العقاقير النفسانية أو بسبب المرض. ثروة ذات جمال تمثالي تردد دائما أن أمها ستأتي لزيارتها غدا مع دمية وحقيبة ملابس. سميرة تعانق أحدنا من حين إلى آخر وتشدنا إلى صدرها مع حركات مفاجئة قد تؤذينا. آخرون يقعدون في حالة نباتية نظرتهم فقط تكفي لتُرعب الواحد. يكررون إشارات, على وجوههم تعبيرات فارغة, يقولون أشياء بلا معنى. أمس وأنا أدفع عربية أبرهام من الدرج أوشكت أن أسقطه لأنني كنت أدفعها من الجهة الخاطئة. هو خاف المسكين لكن كدت أن أفكر: سيكون واحد أقل. 

7 آب

 نهار آخر مقسم بين مناوبتين. لم أجاوب بعد الأصدقاء الذين طلبوا أخباري من إيطاليا لأني لا أريد أن أكون مأسويا تحت تأثير صدمة الأيام الأولى. كل بداية صعبة وأود قول ذلك بكل صراحة.في الساعة الثامنة أخرج للذهاب إلى الكنيسة للقداس في طقس روم الأرثوذكس ثم مع دوريس نتجه إلى كنيسة القديسة حنة القديمة الجميلة والبسيطة للغاية. نتمدد في برودة ظل الأشجار على المقاعد ونغفى حتى يقاطع رقدنا الحارس الذي يذكرنا بوقت الإغلاق. العصر يبدأ كالعادة في الثانية ونصف مع النشطات المألوفة التي ترافقنا إلى ساعة العشاء ثم إلى وقت إرسال الكل إلى النوم. ننتهي لليوم غير أننا سنكون غدا في الحمامات اعتبارا من السادسة وبصف تحيطنا روائح غريبة... 

8 آب

 تخرج هذه الروائح الغريبة من مجرى مرحاضي (أو على الأقل أعتقد ذلك إن لم أصب بخداع شمي) بطريقة خفيفة إنما كافية لتذكرني بوقت حمام المرضى.اليوم كان دوامي على مناوبة واحدة وبعد الشغل والغداء مشيت مع دوريس إلى بيت لحم. كان مشوارا ظريفا وزرنا البلدة اللطيفة مع كنيسة المهد الجميلة. ركبنا الحافلة للرجوع ووصلنا متعبين ولكن راضين.لاحظت أن الراهبات يتكلمن الفرنسية إلى حد الإفراط وحتى اللبنانيات منهن. يؤسفني أن أكون مضطرا في سماع هذه اللغة أكثر من اللازم وهي تبدو لي أنها زرعت في هذا المكان بوجه اصطناعي. 

9 آب

 اليوم أشتغل على مناوبتين وبعد دوام الصباح أتجه إلى ساحة المعبد لزيارة الجوامع من الخارج فقط نظرا لأن الدخول لغير المسلمين ممنوع. إنها رائعة الرؤية على هذه المعالم التي تشكل رمزا للمدينة وعلى المنظر الخلاب الذي يحدده أفق البلدة القديمة بقببها ومآذنها وصلبان كنائسها وبيوتها وتقاطع الأفق بذاته أقواس المباني الممالوكية في حشية الساحة. أعتبر أن مَن خطط هذه القبة المذهبة اللامعة تحت الشمس كان يعرف تماما ماذا يعني إنشاء رمزٍ للمدينة: إن القبة المعلم المبين والمعروف من بعيد وينغرس شكله في الذهن.  إنه نقطة مرجعية تتبين من خلال حجر البيوت من أي موقع بفضل شكلها ولونها وموقفها.أبدأ العمل بعد الظهر مع نية جيدة للتفاعل مع هؤلاء الأشخاص الغرباء. ألعب معهم وأجلعهم يلعبون بأنفسهم بالليجو الملون.مارياتا تعبر عن روح إيجابية جدا ومن الواضح أنها قد تعطفت على كل الأفراد وتعمل على مستوى يسمح لها بأن تتواصل معهم, الأمر الذي يجعلها تشترك في كون المرضى ويُدخلها  إلى عالمهم. في هذه الطريقة هي تضحك معهم أو على تصرفاتهم الهازلة بشكل حنون. لكني أدرك أنني شيئا فشيئا أصبح أتبنى شكلا من أشكال التواصل أنا الآخر. 

10 آب

 عندي نفس التوقيت الذي كان عندي البارحة وأستغل الوقوف الطويل لأعمل المستحيل ألا وهو الوصول إلى دير مار سابا في صحراء يهودا خلف القدس. بعض المشاكل تؤخر الانطلاق على القدمين من موقف الحافلة. أنصرف تحت الشمس العنيفة على النزول الذي يدمر الرجلين ومع الفكرة الثابتة أنه يجب العودة قبل الساعة 2.30 لأشرع في الشغل.بعد وصولي إلى الدير أقعد مع بعض الرعاة البدو الذين يقدمون لي الشاي بينما نتحدث عن برج أيفل وحياتهم الرعوية التي دهمت فيها. الدير مغلق بسبب الغداء وبعد الارتياح أسلك الطريق من جديد وهو صاعد هذه المرة. أتأخر في الشغل بنصف ساعة.الراهبة (من الأحسن أن أسميها العقيد) تلقي لي نظرة بالغة المعنى. أنا في منتهى التعب وهذا الصباح استيقظت ساخطا.ولو كلمة واحدة قد تسفر عن رد فعل غير عذب من جهتي كما قد حدث البارحة عندما لم تجب نومي لسلامي ورددت لها "صباح الخييييير" وأنا أصرخ في الممر.هذا الصباح كنت أريد أن أزجُر كل هذه المجوعة وبعد الظهر نفس الشيء. أريد أن أقول لهم "ما عدت اتحملكن". من الممكن أن أكون قلت ذلك بالإيطالية في صوت واطئ بدون أن يفهموني.أبلغ الساعة السادسة بكثير من الفتور مجهدا من الماراثون على القدمي إلى الدير ذهابا وإيابا. لم أتغد شيئا إلا حبة مانجا. أفكر في هؤلاء المساكين. أي حق لنا من أن نبقي على قيد الحياة واحدا يعيش مثل نبات؟ فعلا يوجد قبيل له هنا يطعمونه من خلال أنبوب إلى معدته: أليس هذا ضد الطبيعة؟ ألا نرتكب عمل عنف إذا أعطينا مخدرات بكل معاني الكلمة للمرضى الذين يعيشون طول النهار في حالة | بلا وعي بأنفسهم؟ يتحركون مخبلين ولا يعرفون ذلك, يفعلون أشياء ولا يفهمون. قد تقرر غير ذلك الطبيعة...هذا المساء هناك مظاهرة ضخمة في حائط المبكى ضد الانسحاب من غزة مع نشر كبير من قوات الأمن. المتظاهرون كثيرون يحملون الأشرطة البرتقالية رمزا لهذه الطائفة.أنتهي اليوم تحت رعاية الملل مع ماريانجيلا وهي سيدة إيطالية من النخبة جاءت لتعلم اللغة العبرية لتقدر أن تقول شيئا في حفلة توزيع الجوائز لمسابقة موسيقية نظمتها عائلتها. وبما أن أمها واهبة كبيرة للراهبات تقعد هي هنا ولا تترك شيئا ألا تشكي منه: الحرارة والطعام والناموس وإلى لا نهاية له. 

11 آب

 تحول المنبه إلى خنجر يطعنني في الصباح. لا يوجد مجال من أن أبقى قليلا في السرير. يتراكم علينا كثير من التعب من جراء إيقاع الشغل والمشاوير الذي نتبعه ونحس به خصوصا في الصباح الباكر.اليوم سننظم مع البنات مشوارا إلى أريحة. في الحقيقة أنا متردد هل أسافر معهن أو أتركهن يسافرن. تمددت بعد الغداء على الفراش ولا أريد أن أقوم من هذه الرقدة في هواء العصر العنين والبارد في الظل من أشعة الشمس الوحشية.على كل حال تتغلب الروح النشيطة ونركب حافلة من باب العامود وبعد فترة قصيرة نغيّر المركب في بلدة العيذرية. في الباص شاب قصة شعره حديثة جدا طويل من فوق ومقصور تحت. يحسبني عبريا من الخارج وهو يسمعني أتكلم الفرنسية مع البنات فيسألني أأتكلم العبرية. أجيب لا إنما نستطيع المحادثة بالعربية. يتبين من كلامه ميزة قد لاحظتها عند الشباب العرب الإسرائيليين ألا وهي اللامبالاة تجاه السياسة التي قد يعود سببها إلى ووعيهم بأنهم يعيشون في حالة تمييز وخاصة لمواطني الدرجة الثانية إنما أحسن بكثير من الوضع وراء الجدار الكريه الذي يبنيه شارون حاليا.في أريحة نبدأ المشي في حرارة لا تتحمل في غور الأردن باتجاه قصر هشام الذي لا نصل إليه على قدمينا كما أردنا بل تقلنا سيارة تقفها مارياتا بدون خجل على الطريق. بعد زيارة الآثار وبعد قبول خدمة الحارس الذي يطلب لنا سيارة أجرة للذهاب إلى دير القرنطل, نتأمل الموضع الجميل لهذا المبنى الذي تصل إليه حتى السلات المسمى هنا التليفريك (هذا تلاعب هازل بالألفاظ بالفرنسية).في الساحة المركزية نشتري أرغفة "عالصاج" وتمرا ثم نركب السرفيس. راكب من الخليل يدفع إيجارنا كهدية. في البلدة الني نغير فيها وسائل النقل نتوقف لتصوير الجدار العنصري الفاضح الذي يقطع القرية ة إلى اثنين. يؤدينا شاب بسيارته إلى موقف القدس بينما نضحك كالمجانين على سوء الفهم الذي ينشأ حول ثمن هذه الرحلة. 

12 آب

 اليوم أتخاصم مع الموظفات لأنهن لا يناوبننا في الساعة 9.30 عندما من المفروض أن نتوقف للفطور. عندي الإحساس أحيانا بأننا نقوم بالعمل الذي لا يقمن به هن.نخرج مع الكاهن المصري نتنزه إلى شارع تجاري ناشط الذي أعد لنفسي بأن أعود إليه.في الساعة 12.30 نتوقف وفي ال15.30 نتجه إلى محطة الحافلات للذهاب إلى حيفا. اتفقت مع توفيق وهو زوج أخت صديق لي في إيطاليا أنه سيأخذنا من هناك إلى بيته. في الساعة 6 نتقابل معه أمام البريد.نذهب بالسيارة إلى الفريديس حيث نتعرف على أهل محمد جميعا وخصوصا على والديه, أخته الفاتنة, الأطفال الكثيرين. نذهب إلى حفلة خطبة ثم إلى بيت أبي سليم ولا نعود إلى بيت توفيق إلا في وقف متأخر لتناول بعض الأكل في الساعة 11. 

13 آب

 اليوم عندنا استراحة ونستيقظ في الساعة 8.45. ما أجمله! بعد الفطور نغادر مع توفيق إلى الناصرة حيث نزور كنيسة البشارة الذي كنت أتوقعها بشعة إنما تؤثر علي نظرا لكل بيانات المبتهجة الأمومة مرسومة بفسيفساء قدمتها الأمم المختلفة تكريما لمريم العذراء.حتى المغارة مؤثرة جدا وأتوقف لحظة للتأمل بدون الحاجة إلى مرشد أو باحث خارجي.نعود إلى الفريديس وبعد الغداء الشهي ننصرف إلى القسارية حاملين كثيرا من الهدايا. هنا نريد أن نجتمع مع مجموعة من الحجاج المسيحيين يقودها صديق لدوريس لنعود معهم إلى القدس بحافلتهم. فقط نستغل هذه الفرصة! رغم عدم وجود موعد أو إمكانية الاتصال معهم بالهاتف نتمكن من أن نحدد الشاطئ الذي يتسلى الشباب عليه. نسبح سباحة سريعة وفورا ننطلق إلى القدس. 14 آب بين مناوبتي الشغل أمشي إلى الشارع التجاري وأشتري نعلا يعجبني. المساء بعد العشاء أخرج مع دوريس ومارياتا للذهاب إلى جامعة المرمون التي فكرنا أنه يجري فيها حفلة موسيقية مجانا. بعد أن بحثنا المكان على عجل خوفا من الوصول متأخرين نكتشف أن الحفلة ألغيت هذا المساء فنعود إلى البيت. أشرع في القراءة في المطبخ إلا أن دوريس تأتي قبل قليل وتقول مضطربة إن السيدة اليهودية التي نراها منذ بضعة أيام في الدير تقف متمددة شبه عارية على الأريكة أمام غرفتها وتبكي, تصرخ وتئنّ. هي سكرانة للغاية بالعرق فننومها. 

15 آب

 خلال الوقفة أذهب مع عيسى لشراء الخبز للشوارما الذي سنأكله في الغداء. أمشي بعد ذلك إلى سقف كنيسة القيامة لمواصلة قراءة روايتي.أحس كأنني في واحة ظل هادئة يحيط بي الرهبان الأقباط العابسين العجيبين. السماء أزرق وأمامي القبة عليها الصليب الجميل المذهب. بعض الصلبان القديمة تبرز من السقوف.اليوم يعطوننا أكلات خاصة لأنه عيد العذراء. 

16 آب

 أمشي بين المناوبتين مع دوريس إلى جبل الزيتون مع أمل سأجد مكانا هادئا في الظل للقراءة. النزهة تتبين صعودا أليما في الحرارة ونمر من كنيسة إلى أخرى من بينها كنيسة بكاء الرب التي في الحقيقة تجعلني أفكر أن أي إنسان بعد جهد هذا الصعود سوف ينفجر بالبكاء من اليأس.في العشاء ماريانجيلا مملة للغاية فتتدفق من فمها مائة ألف شكوى على الحرارة. أنا أحاول أن ألتفت إليها أقل الالتفات غير أنها تزعجني. أبتعد من الطاولة ما إن أستطيع للقراءة. لم يعد هناك أي تفاهم بيننا!!في المساء أخرج مع دوريس للذهاب إلى المبيت النمساوي ونتعرف على نعض الشباب العرب. من تصرفاتهم يبدو أنهم في اتصال الحركة السياحية ولذلك أتعامل معهم بنوع من الريب. نقضي السهرة ونحن نتأمل المنظر من سطح المبنى الرائع إلا أنني خائب أملي بسبب مضمون الحوار. 

17 آب

 سيكون يوم استراحة لنا غدا ولذلك نغادر إلى أريحة في العصر وتبدأ النزول في وادي القلط الخلاب الصحراوي الفرجوي. نيتنا أن نمشي من خلاله حتى أريحة ولكن تعرف أن المشوار يتطلب 4 ساعات أو أكثر. فضلا عن ذلك, نخاف من الحرارة ومن كوننا نندفع إلى منطقة خالية من عيون ماء صالح للشرب. رغم كل المخاوف ننصرف.من أعلى الوادي المنظر جميلٌ لا يصدق. في قاع الوادي نلمح واحة صغيرة ببعض النخيل وفعلا نلتقي قناة الماء عند وصولنا. ليس هذا إلا ساقي ماء يجري نحو أريحة في القناة. يظهر أن هذا العرق من الماء الراكض كالزئبق ثمينٌ أكثر كلما قل في بيئة يسودها الجفاف والحرارة. الهواء الحارق يجبرنا للشرب في استمرار من زجاجتنا وعند القناة لا أقاوم إغراء الارتماء إلى الماء مرتين بملابسي غافلا عن وجود حقيبتي في جيبي.نواصل المسلك والملابس ممتصة بالماء على أجسامنا. بعد متابعة القناة بعض الوقت نصادف راعيا ونتكلم معه قليلا. المشكلة أننا ندرك كوننا فقدنا طريق الدير بعد أن صعدنا إلى جانب الجبل المعاكس إنما الشمس الآن تقرب الغروب. نصادف شابا بدويا ثانيا مع حماره فيصر أن يرافقنا إلى الدير. نأمل أن يستقبلونا لليل لكن الرهبان لا يفتحون لنا الباب نظرا للساعة المتأخرة ونضطر إلى مواصلة المشي إلى أريحة في ضوء القمر الرائع الذي شرق من الأفق في هذا الأثناء. بلال ما زال معنا وحماره يبدأ أن يلهث بسبب التعب. يريد أن يُجلس دوريس على الحيوان ومن الأرجح أن هذا ليس إلا حجة لترك يده تحت فخذها! دوريس ترفض طلباته وفي النهاية يكتفي بلال.في أريحة نجد فندقا بمساعدة جنديين تابعين لفتح. إنه موحش وما إن أدخل الحمام تطل من المرحاض خُنْفُسَة كبيرة ذات مِجَسّين طويلين. بينما أخذ الدوش ينقطع الماء وأبقى شبه مغطى بالصابون إلا أنهم يحملون لنا سطل ماء.بعد أكل سندويش فلافل نصعد إلى ملهى ليلي على التل حيث نتحدث بشكل ممتع مع الرفيقين اللذين قد تعرفنا عليهما ونشرب شايا. في أثناء ذلك يأتي ضابط للسلطة الفلسطينية فيعزف العود تكريما لنا.هنا جو مختلف تماما عن القدس. في كل مكان ملصقات تأييدا لعرفات والكل يتحدث عن أبي عمار هذا الكبير. ندرك الميزات المخصصة لمسؤولي السياسة وهذه الأخيرة تدار كأداة سلطة. في سبيل المثال يحذروننا بأن في الشرفة الموضع الأحسن مخصص لهؤلاء.

18 آب

 نستيقظ في وقت مبكر لركوب الحافلة إلى مصادة. يأتي أسامة عسكري السلطة ليودعنا والشاب من الفندق يرافقنا إلى الساحة.نأخذ الباص ونصل إلى المرتفع المطل على البحر الميت. نزور الموقع تحت شمس نارية. عند النزول نلتقي شابين من كولومبيا يشتغلان في كبوتس في الشمال ونتحدث عن تجربتهما. ننزل إلى محمية عين جيدي التي نجدها مليئة بناس كبار وصغار يصرخون في كل مكان. ليس مريحا جدا.بالعكس نستريح كثيرا في البحر الميت. نستحم لفترة طويلة ونحن نطفو في الماء تحت الشمس المائلة التي لا تزال تدفِئ وهذا تعوضنا من كل تعب.الحافلة إلى القدس مكتظة ونضطر للجلوس في الممر.

19 آب

 نعود إلى الشغل. اليوم كنت في ساحة كنيسة القيامة لقراءة الرواية التي قد بدأتها.في المساء زميلتنا هبة دعوتنا إلى بيتها مع موظفة الاستقبال الظريفة والمرحة فقضينا شهرة جميلة في الفرح وأكلنا الكنافة. جدة هبة كانت موجودة هي الأخرى ولكنها لم تتناول الكنافة المصنوعة بالجبنة لأنها تتبع إحدة فترات الصيام الصارمة التي تمارسها المسيحيون الشرقيون. هذا اسمه صيام العذراء ويمنع اللحم ومشتقاته والحليب ومشتقاته خلال 3 أسابيع. عدة مرات سمعت رجال ونساء دين غربيين يقولون كفكرة نمطية إن الإيمان هنا تقتصر في هذه الشكليات. إنما أعتقد أن هذا التصريح يتأثر بعُقدة تفوق أوروبية أو ربما رومانية. إذا تتشكل العقيدة المسيحية هنا أيضا في هذه الأشياء, يُسرني كثيرا أن أرى طريقة مختلفة عن طريقتنا لا تفرضها المركزية.هذا المساء أدرك أننا لزمنا كل هذا الوقت لبدء بناء علاقات ثقة مع زميلات الشغل. العلاقات نين الرجال والنساء مختلفة جدا عن علاقاتنا في إيطاليا فتسود تفرقة حادة بين الجنسين. في البداية ظننت أنني أحس بعدم ثقة تجاهنا المتطوعين وربما لم يكن إلا تصرفا اجتماعيا لنساء يتعاملن مع رجل.هذا المساء نتحدث بشكل طبيعي حتى عن المعاقين الذين نعتبرهم أصدقاء.